فصل: حَذْفُ الْفَاعِلِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.مَا يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ:

قَوْلُهُ تعالى: {فصبر جميل} يَحْتَمِلُ حَذْفَ الْخَبَرِ أَيْ أَجْمَلُ أَوْ حَذْفَ الْمُبْتَدَأِ أَيْ فَأَمْرِي صَبْرٌ جَمِيلٌ وَهَذَا أَوْلَى لِوُجُودِ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ- هِيَ قِيَامُ الصَّبْرِ بِهِ- دالة على الْمَحْذُوفِ وَعَدَمُ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ مَقَالِيَّةٍ تَدُلُّ عَلَى خُصُوصِ الْخَبَرِ وَأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِلْإِخْبَارِ بِحُصُولِ الصَّبْرِ لَهُ وَاتِّصَافِهِ بِهِ وَحَذْفُ الْمُبْتَدَأِ يُحَصِّلُ ذَلِكَ دُونَ حَذْفِ الْخَبَرِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الصَّبْرَ الْجَمِيلَ أَجْمَلُ مِمَّنْ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ.
وَكَذَلِكَ يَقُولُهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ وَصْفًا لَهُ وَلِأَنَّ الصَّبْرَ مَصْدَرٌ وَالْمَصَادِرُ مَعْنَاهَا الْإِخْبَارُ فَإِذَا حُمِلَ عَلَى حَذْفِ الْمُبْتَدَأِ فَقَدْ أُجْرِيَ عَلَى أَصْلِ مَعْنَاهُ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ خَبَرًا وَإِذَا حُمِلَ عَلَى حَذْفِ الْخَبَرِ فَقَدْ أُخْرِجَ عَنْ أَصْلِ مَعْنَاهُ.
وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} أَيْ أَمْثَلُ أَوْ أَوْلَى لَكُمْ مِنْ هَذَا أَوْ أَمْرُكُمُ الَّذِي يُطْلَبُ مِنْكُمْ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {سورة أنزلناها} إِمَّا أَنْ يُقِدِّرَ فِيمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ سُورَةٌ أَوْ هَذِهِ سُورَةٌ.
وَقَدْ يُحْذَفَانِ جُمْلَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} الْآيَةَ.

.حَذْفُ الْفَاعِلِ:

الْمَشْهُورُ امْتِنَاعُهُ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ:
أَحَدُهَا: إِذَا بُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ.
ثَانِيهَا: فِي الْمَصْدَرِ إِذَا لَمْ يُذْكَرْ مَعَهُ الْفَاعِلُ مُظْهَرًا يَكُونُ مَحْذُوفًا وَلَا يَكُونُ مُضْمَرًا نحو: {أو إطعام}.
ثَالِثُهَا: إِذَا لَاقَى الْفَاعِلُ سَاكِنًا مِنْ كَلِمَةٍ أُخْرَى كَقَوْلِكَ لِلْجَمَاعَةِ: اضْرِبُ الْقَوْمَ، وَلِلْمُخَاطَبَةِ: اضْرِبِ الْقَوْمَ.
وَجَوَّزَ الْكِسَائِيُّ حَذْفَهُ مُطْلَقًا إِذَا مَا وُجِدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا إذا بلغت التراقي} أَيْ بَلَغَتِ الرُّوحُ.
وَقَوْلُهُ: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} أي الشمس.
{فإذا نزل بساحتهم} يعني العذاب، لقوله قبله: {أفبعذابنا يستعجلون}.
{فلما جاء سليمان} تَقْدِيرُهُ: فَلَمَّا جَاءَ الرَّسُولُ سُلَيْمَانَ.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ فِي الْمَذْكُورَاتِ مُضْمَرٌ لَا مَحْذُوفٌ وَقَدْ سَبَقَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا.
أَمَّا حَذْفُهُ وَإِقَامَةُ الْمَفْعُولِ مَقَامَهُ مَعَ بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ فَلَهُ أَسْبَابٌ:
مِنْهَا: الْعِلْمُ بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عجل}. {وخلق الإنسان ضعيفا} وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ.
قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَضَابِطُهُ أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ إِنَّمَا هُوَ الْإِعْلَامُ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ وَلَا غَرَضَ فِي إِبَانَةِ الْفَاعِلِ مَنْ هُوَ.
وَمِنْهَا: تَعْظِيمُهُ كَقَوْلِهِ: {قضي الأمر الذي فيه تستفتيان} إِذْ كَانَ الَّذِي قَضَاهُ عَظِيمُ الْقَدْرِ.
وَقَوْلِهِ: {وغيض الماء وقضي الأمر}.
وقوله: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ الْقَدِيمِ: هَذَا أَدَلُّ عَلَى كِبْرِيَاءِ الْمُنَزَّلِ وَجَلَالَةِ شَأْنِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ (أَنْزَلَ) مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ كَمَا تَقُولُ الْمَلِكُ أَمَرَ بِكَذَا وَرَسَمَ بِكَذَا وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ الْفِعْلُ فِعْلًا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ كقوله: {وقضي الأمر} قَالَ: كَأَنَّ طَيَّ ذِكْرِ الْفَاعِلِ كَالْوَاجِبِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِنْ تَعَيَّنَ الْفَاعِلُ وَعُلِمَ أَنَّ الْفِعْلَ مِمَّا لَا يَتَوَلَّاهُ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ كَانَ ذِكْرُهُ فَضْلًا وَلَغْوًا.
وَالثَّانِي: الْإِيذَانُ بِأَنَّهُ مِنْهُ غَيْرُ مُشَارِكٍ وَلَا مُدَافِعٍ عَنِ الِاسْتِئْثَارِ بِهِ وَالتَّفَرُّدِ بِإِيجَادِهِ وَأَيْضًا فَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَصِيرِ أَنَّ اسْمَهُ جَدِيرٌ بِأَنْ يُصَانَ وَيُرْتَفَعُ بِهِ عَنِ الِابْتِذَالِ وَالِامْتِهَانِ وَعَنِ الْحَسَنِ لَوْلَا أَنِّي مَأْذُونٌ لِي فِي ذِكْرِ اسْمِهِ لَرَبَأْتُ بِهِ عَنْ مَسْلَكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ.
وَمِنْهَا: مُنَاسَبَةُ الْفَوَاصِلِ، نَحْوَ: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نعمة تجزى} وَلَمْ يَقُلْ يَجْزِيهَا.
وَمِنْهَا: مُنَاسَبَةُ مَا تَقَدَّمَهُ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يفقهون}، لأن قبلها: {وإذا أنزلت سورة} عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ فَجَاءَ قَوْلُهُ: {وَطُبِعَ} لِيُنَاسِبَ بِالْخِتَامِ الْمَطْلَعَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِيمَا بَعْدَهَا: {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ قَبْلَهَا مَا يَقْتَضِي الْبِنَاءَ فَجَاءَتْ عَلَى الْأَصْلِ.
حَذْفُ الْمُضَافِ وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ.
وَهُوَ كَثِيرٌ، قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَفِي الْقُرْآنِ مِنْهُ زُهَاءَ أَلْفِ مَوْضِعٍ وَأَمَّا أَبُو الْحَسَنِ فَلَا يَقِيسُ عَلَيْهِ ثُمَّ رَدَّهُ بِكَثْرَةِ الْمَجَازِ فِي اللُّغَةِ وَحَذْفُ الْمُضَافِ مَجَازٌ. انْتَهَى.
وَشَرَطَ الْمُبَرِّدُ فِي كِتَابِ (مَا اتَّفَقَ لَفْظُهُ وَاخْتَلَفَ مَعْنَاهُ) لِجَوَازِهِ وُجُودَ دَلِيلٍ عَلَى الْمَحْذُوفِ مِنْ عَقْلٍ أَوْ قَرِينَةٍ نَحْوَ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}، أَيْ أَهْلَهَا قَالَ: وَلَا يَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ نَقُولَ: جَاءَ زَيْدٌ وَأَنْتَ تُرِيدُ غُلَامَ زَيْدٍ لِأَنَّ المجيء يكون له ولا دليل (في مثل هذا) عَلَى الْمَحْذُوفِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ الْقَدِيمِ: لَا يَسْتَقِيمُ تَقْدِيرُ حَذْفِ الْمُضَافِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَلَا يُقْدَمُ عَلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَاضِحٍ وفي غير ملبس كقوله: {واسأل القرية}.
وَضُعِّفَ بِذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَدَّرَ فِي قَوْلِهِ: {وهو خادعهم} أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ.
فَإِنْ قُلْتَ: كَمَا لا يجوز مجيئه لايجوز خِدَاعُهُ فَحِينَ جَرَّكَ إِلَى تَقْدِيرِ الْمُضَافِ امْتِنَاعُ مَجِيئِهِ فَهَلَّا جَرَّكَ إِلَى مِثْلِهِ امْتِنَاعُ خِدَاعِهِ!.
قُلْتُ: يَجُوزُ فِي اعْتِقَادِ الْمُنَافِقِينَ تَصَوُّرُ خِدَاعِهِ فَكَانَ الْمَوْضِعُ مُلْبِسًا فَلَا يُقَدَّرُ. انْتَهَى.
فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر} أي رحمته ويخاف عذابه.
{حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج} أَيْ: سَدُّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ.
{وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} أَيْ: شَعْرُ الرَّأْسِ.
{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تخافت بها} أَيْ بِقِرَاءَةِ صَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِقِرَاءَتِهَا.
{وَلَكِنَّ البر من آمن بالله} أَيْ بِرُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ.
{فَلَمَّا أَتَاهَا نودي} أَيْ نَاحِيَتَهَا وَالْجِهَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا.
{هَلْ يسمعونكم إذ تدعون} أَيْ هَلْ يَسْمَعُونَ دُعَاءَكُمْ بِدَلِيلِ الْآيَةِ الْأُخْرَى {قال هل يسمعونكم إذ تدعون}.
{على خوف من فرعون وملأهم}، أَيْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ.
{إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة وضعف الممات} أَيْ ضَعَّفَ عَذَابَهُمَا.
{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الذي ينعق} أَيْ وَمَثَلُ وَاعِظِ الَّذِينَ كَفَرُوا كَنَاعِقِ الْأَنْعَامِ.
{وأزواجه أمهاتهم} أَيْ مِثْلُ أُمَّهَاتِهِمْ.
{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أَيْ شُكْرَ رِزْقِكُمْ. وَقِيلَ: تَجْعَلُونَ التَّكْذِيبَ شُكْرَ رِزْقِكُمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} أي على ألسنة رسلك.
وقوله: {أماناتكم} أَيْ ذَوِي أَمَانَاتِكُمْ كَالْمُودَعِ وَالْمُعِيرِ وَالْمُوَكَّلِ.
وَالشَّرِيكِ وَمَنْ يَدُكَ فِي مَالِهِ أَمَانَةً لَا يَدَ ضَمَانٍ وَيَجُوزُ أَنْ لَا حَذْفَ فِيهِ لِأَنَّ (خُنْتَ) مِنْ بَابِ (أَعْطَيْتَ) فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَيُقْتَصَرُ عَلَى أَحَدِهِمَا.
وَقَوْلُهُ: {وَإِلَى مَدْيَنَ أخاهم شعيبا}، أَيْ أَهْلُ مَدْيَنَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا كُنْتَ ثاويا في أهل مدين}.
{واسأل القرية التي كنا فيها} أَيْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ وَأَهْلَ الْعِيرِ.
وَقِيلَ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَرْيَةَ يُرَادُ بِهَا نَفْسُ الجماعة، والثاني: أن المراد الْأَبْنِيَةِ نَفْسِهَا لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ نَبِيٌّ صَاحِبُ مُعْجِزَةٍ.
{الحج أشهر معلومات} وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ الْحَجُّ حَجُّ أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ.
{وجاء ربك والملك} أَيْ أَمْرُ رَبِّكَ.
{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بكفرهم} أَيْ حُبَّ الْعِجْلِ قَالَ الرَّاغِبُ: إِنَّهُ عَلَى بَابِهِ فَإِنَّ فِي ذِكْرِ الْعِجْلِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لِفَرْطِ مَحَبَّتِهِمْ صَارَ صُورَةُ الْعِجْلِ فِي قُلُوبِهِمْ لَا تَمَّحِي.
وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فعل ربك بعاد إرم} فَإِرَمُ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ إلا أنه منع الصرف للعملية وَالتَّأْنِيثِ أَمَّا لِلْعَلَمِيَّةِ فَوَاضِحٌ وَأَمَّا التَّأْنِيثُ فَلِقَوْلِهِ: {ذات العماد}.
وَقَوْلُهُ: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أصبحوا بها كافرين} أي بسؤالها فحذف المضاف وَلَمْ يَكْفُرُوا بِالسُّؤَالِ إِنَّمَا كَفَرُوا بِرَبِّهِمُ الْمَسْئُولِ عَنْهُ فَلَمَّا كَانَ السُّؤَالُ سَبَبًا لِلْكُفْرِ فِيمَا سَأَلُوا عَنْهُ نُسِبَ الْكُفْرُ إِلَيْهِ عَلَى الِاتِّسَاعِ.
وقيل: الهاء الْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ لِقُوَّةِ هَذَا الْكَلَامِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْفِعْلَ تَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَالْأَوَّلُ بِغَيْرِهِ وَإِنَّمَا هَذِهِ الْآيَةُ كِنَايَةٌ عَمَّا سَأَلَ قَوْمُ مُوسَى وَقَوْمُ عِيسَى مِنَ الْآيَاتِ ثم كفروا فمعنى السؤال الأول والثان الِاسْتِفْهَامُ وَمَعْنَى الثَّالِثِ طَلَبُ الشَّيْءِ.
وَقَوْلُهُ: {حُرِّمَتْ عليكم الميتة}، أَيْ تَنَاوُلُهَا لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَجْرَامِ إِلَّا بِتَأْوِيلِ الْأَفْعَالِ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمَيْتَةَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ تَنَاوُلِهَا فَلَا حَذْفَ وَلَوْ كَانَ ثَمَّ حَذْفٌ لَمْ يُؤَنِّثِ الْفِعْلَ وَلِأَنَّ الْمُرَكَّبَ إِنَّمَا يُحْذَفُ إِذَا كَانَ لِلْكَلَامِ دَلَالَةٌ غَيْرَ الدَّلَالَةِ الْإِفْرَادِيَّةِ وَالْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا التَّرْكِيبِ التَّنَاوُلُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ فَيَكُونُ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لَهُ وَالْمَشْهُورُ فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ مِنْ مَحَالِّ الْحَذْفِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ في الصالحين}، فَهَاهُنَا إِضْمَارٌ لِأَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا جَعَلْتُهُ فِي جُمْلَةِ الصَّالِحِينَ) لَمْ يَكُنْ فَائِدَةٌ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي زُمْرَةِ الصالحين.
وقوله: {تجعلونه قراطيس} أَيْ ذَا قَرَاطِيسَ أَوْ مَكْتُوبًا فِي قَرَاطِيسَ {تُبْدُونَهَا} أَيْ تُبْدُونَ مَكْتُوبَهَا.
وَقَوْلُهُ: {وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} لَيْسَ الْمَعْنَى تُخْفُونَهَا إِخْفَاءً كَثِيرًا وَلَكِنَّ التَّقْدِيرَ: تُخْفُونَ كَثِيرًا مِنْ إِنْكَارِ ذِي الْقَرَاطِيسِ أَيْ يَكْتُمُونَهُ فَلَا يُظْهِرُونَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكتاب}. وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ}.
وقوله: {فسالت أودية بقدرها}، أَيْ بِقَدْرِ مِيَاهِهَا.
وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهم بها}، أَيْ هَمَّ بِدَفْعِهَا أَيْ عَنْ نَفْسِهِ فِي هذا التأويل بتنزيله يُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ وَعَلَيْهِ فَيَنْبَغِي الوقف على قوله: {لقد همت به}.

.تنبيه:

في جواز حذف المضاف مع الالتفات إليه.
اعْلَمْ أَنَّ الْمُضَافَ إِذَا عُلِمَ جَازَ حَذْفُهُ مَعَ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ فَيُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمَلْفُوظِ بِهِ من عود الضمير عليه وَمَعَ اطِّرَاحِهِ يَصِيرُ الْحُكْمُ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ للقائم مقامه.
فمثال استهلاكه حكمه وتناسي أمره قوله تعالى: {أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج}: فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِي (يَغْشَاهُ) عَائِدٌ عَلَى الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ بِتَقْدِيرِ أَوْ كَذِي ظُلُمَاتٍ.
وَقَوْلِهِ: {أَوْ كصيب} أَيْ كَمِثْلِ ذَوِي صَيِّبٍ وَلِهَذَا رَجَعَ الضَّمِيرُ إليه مجموعا في قوله: {يجعلون أصابعهم في آذانهم} وَلَوْ لَمْ يُرَاعَ لَأَفْرَدَهُ أَيْضًا.
وقوله: {كذبت قوم نوح} وَلَوْلَا ذَلِكَ لَحُذِفَتِ التَّاءُ لِأَنَّ الْقَوْمَ مُذَكَّرٌ ومنه قول حسان:
يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ الْبَرِيصَ عَلَيْهِمُ ** بَرَدَى يُصَفَّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ

بِالْيَاءِ أَيْ مَاءٌ بَرَدَى وَلَوْ رَاعَى الْمَذْكُورَ لَأَتَى بِالتَّاءِ.
قَالُوا: وَقَدْ جَاءَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ مُرَاعَاةُ التَّأْنِيثِ وَالْمَحْذُوفِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بأسنا بياتا أو هم قائلون} أَنَّثَ الضَّمِيرَ فِي (أَهْلَكْنَاهَا) وَ: (فَجَاءَهَا) لِإِعَادَتِهِمَا عَلَى الْقَرْيَةِ الْمُؤَنَّثَةِ وَهِيَ الثَّابِتَةُ ثُمَّ قَالَ: {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} فَأَتَى بِضَمِيرِ مَنْ يَعْقِلُ حَمْلًا عَلَى (أَهْلِهَا) الْمَحْذُوفِ.
وَفِي تَأْوِيلِ إِعَادَةِ الضَّمِيرِ عَلَى التَّأْنِيثِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا قَامَ مَقَامَ الْمَحْذُوفِ صَارَتِ الْمُعَامَلَةُ مَعَهُ وَالثَّانِي: أَنْ يُقَدَّرَ فِي الثَّانِي حَذْفُ الْمُضَافِ كَمَا قُدِّرَ فِي الْأَوَّلِ فَإِذَا قُلْتَ: سَأَلْتُ الْقَرْيَةَ وَضَرَبْتُهَا فَمَعْنَاهُ وَضَرَبْتُ أَهْلَهَا فَحُذِفَ الْمُضَافُ كَمَا حُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ إِذْ وَجْهُ الْجَوَازِ قَائِمٌ.
وَقِيلَ: هُنَا مُضَافٌ مَحْذُوفٌ وَالْمَعْنَى أَهْلَكْنَا أَهْلَهَا وَبَيَاتًا حَالٌ مِنْهُمْ أَيْ مُبَيِّتِينَ وَ: {أَوْ هم قائلون} جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا وَمَحَلُّهَا النَّصْبُ.
وَأَنْكَرَ الشَّلُوبِينُ مُرَاعَاةَ الْمَحْذُوفِ وَأَوَّلَ مَا سَبَقَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى وَنَقَلَهُ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ لِأَنَّ الْقَوْمَ جَمَاعَةٌ وَلِهَذَا يُؤَنَّثُ تَأْنِيثَ الْجَمْعِ نَحْوَ هِيَ الرِّجَالُ وَجَمْعُ التَّكْسِيرِ عِنْدَهُمْ مُؤَنَّثٌ وَأَسْمَاءُ الْجُمُوعِ تَجْرِي مَجْرَاهَا وَعَلَى هَذَا جَاءَ التَّأْنِيثُ لَا عَلَى الْحَذْفِ وَكَذَا الْقَوْلُ في البيت.
وفي قراءة بعضهم: {والله يريد الآخرة} قَدَّرُوهُ عَرَضَ الْآخِرَةِ وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَدَّرَ ثَوَابَ الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْعَرَضَ لَا يَبْقَى بِخِلَافِ الثَّوَابِ.